فصل: تفسير الآيات (190- 195):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (190- 195):

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}
قلت: {التهلكة}: مصدر هلك- بتشديد اللام- قاله ابن عطية. وضمن {تُلْقُوا} معنى تفضوا، أو تنتهوا، فعدَّاه بإلى، أي: ولا تفضوا بأنفسكم إلى التهلكة. ولا يحتاج إلى زيادة الباء.
وسبب نزول الآية: أن المشركين صَدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وصالحوه على أن يرجع في قابل، فيخلوا له البيت ثلاثة أيام، فرجع لعمرة القضاء، وخاف المسلمون ألا يفوا لهم، فيقاتِلُوا في الحرم والشهر الحرام، وكرهوا ذلك، فنزلت الآية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقاتلوا في سبيل الله} وإعلاء كلمته {الذين يقاتلونكم} أي: يبدءونكم بالقتال، {ولا تعتدوا} فتقاتلوهم قبل أن يبدءوكم، {إن الله لا يحب المعتدين} لا ينصرهم ولا يؤيدهم. ثم نسخ هذا بقوله: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً...} [التوبة: 36] الآية. {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي: وجدتموهم، ولا تتحرجوا من قتالهم في الحرم، فإنهم هم الذين صدوكم وبدأوكم بالإذاية، {وأخرجوهم} من مكة {حيث أخرجوكم} منها، {والفتنة} أي: الكفر الذي هم فيه، {أشد من القتل} لهم في الحرم، {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} ابتداءً {حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم} فيه {فاقتلوهم} فيه، وفي غيره، {كذلك جزاء الكافرين} يفعل بهم ما فعلوا بغيرهم، {فإن انتهوا} عن الشرك وأسلموا {فإن الله غفور} لهم {رحيم} بهم. {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} أي: شرك {ويكون الدين} خالصاً {لله} بحيث لا يبقى في جزيرة العرب إلا دين واحد، {فإن انتهوا} عن قتالكم، فلا تعتدوا؛ فإن {لا عدوان إلا على الظالمين} إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم.
القتال الصدر منكم لهم في {الشهر الحرام} في مقابلة الصد الذي صدر منهم لكم في الشهر الحرام، {والحرمات قصاص} يقتص بعضها من بعض، فكما انتهكوا حرمة الشهر الحرام، بمنعكم من اليبت، فانتهكوا حرمتهم بالقتل فيه. {فمن اعتدى عليكم} بالقتال في الأشهر الحُرُم، أو في الحرَم {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله} فلا تنتصروا لنفوسكم، {واعلموا أن الله مع المتقين} بالحفظ والتأييد.
{وأنفقوا في سبيل الله} في جهاد عدوكم، ولا تمسكوا عن الإنفاق فيه فتلقوا {بإيديكم} أي: بأنفسكم {إلى التهلكة} أي: الهلكة فيستولي عليكم عدوكم.
رُوِيَ عن أبي أيوب الأنصاري (أنه كان على القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا، إن هذه الآية نزلت في الأنصار، قالوا- لما أعز الله الإسلام وكثرب أهله-: لو رجعنا إلى أهلينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها، فأنزل الله فينا {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، وأما هذا فهو الذي قال فيه الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207])
أو: ولا تنفقوا كل أموالكم فتتعرضوا للهلكة، أو الطمع في الخلق، ولكن القصد، وهو الوسط.
{وأحسنوا} بالتفضل على المحاويج والمجاهدين: {إن الله يحب المحسنين} فيحفظهم، ويحفظ عقبهم إلى يوم القيامة.
الإشارة: أعلم أن أعداء الإنسان التي تقطعه عن حضرة ربه أربعة: النفس والشيطان والدنيا والناس. فمجاهدة النفس: بمخالفة هواها، وتحميلها ما يَثقُل عليها حتى ترتاض، ومجاهدة الشيطان: بعصيانه، والاشتغال بالله عنه، فإنه يذوب بذكر الله، ومجاهدة الدنيا: بالزهد فيها، والقناعة بما تيسر منها، ومجاهدة الناس: بالغيبة عنهم والإعراض عنهم في الإقبال والإدبار. فيقول الحقّ جلّ جلاله للمتوجهين إليه: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} ويصدونكم عن حضرته، ولا تعتدوا فتشتغلوا بهم عن ذكري، والإقبال عليّ، {إن الله لا يحب المعتدين}. بل اقتلوهم حيث تعرضوا لكم فقط، فإذا ظهرت صورة النفس أدبها، ثم غاب في الله عنها، وكذلك بقية القواطع.
وكان شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه يقول: (عداوة العدو حقّاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب حقّاً، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو فاتتك محبة الحبيب، ونال العدو مراده منك). اهـ. وأخرجوهم من قلوبكم من حيث أخرجوكم من حضرة ربكم، يعني: كما أخرجوكم من الحضرة في أيام الغفلة، أخرجوهم من قلوبكم في أيام اليقظة. والفتنة بالاشتغال بهم أشد من القتل لهم، ولا تقاتلوهم عند مسجد الحضرة وحال الغيبة في الله، فإن ذلك التفات إلى غير الله، كمن كان مقبلاً عليه حبيبه فجعل يلتفت إلى مَن يكلمه ويشغله عنه. وذلك في غاية الجفاء، حتى يقاتلوكم فيه، ويريدون أن يخرجوكم منه بوسوستهم، فإن قاتلوكم، وخطر على بالكم شيء من وسوستهم، فاقتلوهم بذكر الله، والتعوّذ منهم، فإن الله يكفيكم أمرهم، وينهزمون عنكم، كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا عنكم، وانقطع عنكم خواطرهم، فغيبوا عنهم فإن الله يستركم عنهم، وقاتلوهم على الدوام حتى لا تكون في قلوبكم فتنة منهم، ويكون التوجه كله لله، لا ينازعه شيء مما سواه، فإن انتهوا عنكم فلا تتعرضوا لهم؛ فإن ذلك عدوان وظلم، {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193].
فإن جَنَحَتْ نفسُك إلى حرمة الطاعة الظاهرة؛ كتدريس علم أو جهاد أو غيرها، وأرادت أن تخرجك من حرمة الحضرة القدسية؛ وهي الفكرة والشهود والمعاينة، فقاتلها وأخرجها من حرمة تلك الطاعة، فالحرمات قصاص. فكما أخرجتك من حضرة ربك القدسية أخرِجْها من حضرة الطاعة الحسية إلى الطاعة القلبية. فإن الذَّرَّةَ من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
فمَن اعتدى عليكم، في زمن البطالة، فاعتدوا عليه في زمن اليقظة بمثل ما اعتدى عليكم. وكان شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول: جوروا على نفوسكم بقدر ما جارت عليكم. اهـ. أي: اقتلوها بقدر ما قتلتكم بالبعد عن ربكم. وكان أيضاً يقول: (جوروا على الوهم قل أن يجور عليكم). اهـ. واتقوا الله فإن الله يعينكم عليها، {واعلموا أن الله مع المتقين}. وأنفقوا أنفسكم ومهجكم في سبيل الله، بأن تطرحوها في يد الله يفعل بها ما يشاء. {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} فتدبروا لها، وتختاروا لها، وتعتنوا بشؤونها، فإن ذلك غفلة عن ربكم. {وأحسنوا} أي: ادخلوا في مقام الإحسان؛ بأن تعبدوا لله كأنكم ترونه {إن الله يحب المحسنين} أي: يقربهم إلى حضرته، ويصطفيهم إلى محبته ومعرفته، خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه.

.تفسير الآية رقم (196):

{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}
{وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ...}
قلت: المشهور في اللغة أن أحصر الرباعي: بالمرض، وحصر الثلاثي: بالعدو، وقيل: بالعكس، وقيل: هما سواء. و{ما استيسر}: خبر أو مبتدأ، أي: فالواجب ما استيسر، أو: فعليه ما استيسر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وأتموا الحج} الذي دخلتم فيه، {والعمرة} وجوباً كالصلاة والصوم، ويكون ذلك {لله} لا رياء ولا سمعة، وإنما خصّ الحج والعمرة بالحض على الإخلاص، لما يسرع إليهما من الخلل أكثر من غيرهما، فمن أفسدهما وجب عليه قضاؤهما، {فإن أحصرتم} ومنعتم من إتمامهما فتحللوا منهما، وعليكم {ما استيسر من الهدي}، وذلك شاة {ولا تحلقوا رؤوسكم} أي: لا تتحللوا {حتى يبلغ الهدي محله}، أي: حيث يحل ذبحه، وهو محل الإحصار عند الشافعي، فيذبح فيه بنية التحلل ويُفرق، ومِنَى أو مكة عند مالك، فيُرسله فإذا تحقق أنه وصل وذُبح حل وحلق.
ويحرم على المُحْرِم إزالة الشعث، ولبس المخيط بالعضو، فمن كان {مريضاً أو به أذى} صُداع أو نحوه، فحلق رأسه، أو لبس ثيابه، فعليه فديه {من صيام} ثلاثة أيام، {أو صدقة} على ستة مساكين، مُدَّان لكل مسكين، {أو نسك} بشاة فأعلى، فهو مخير بين الثلاثة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا عقد المريد مع ربه عُقْدةً، فالواجب عليه إتمامها حتى يَجْني ثمرتَها، فإذا عقد عقدة المجاهدة فليجاهد نفسه حتى يجني ثمرتها، وهي المشاهدة، وإذا عقد مع الشيخ عقدة الصحبة، فليلزم خدمته حتى يدخله إلى بيت الحضرة، ويشهد له بالترشيد. وهكذا كل من عقد مع الله عقدة يجب عليه إتمامها، فإن أُحصر ومُنع من إتمامها فليفعل. ما استيسر من ذبح نفسه وحط رأسه، و{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآءَاتَاهَا} [الطّلاَق: 7]، ولا ينبغي أن يستعجل الفتح قبل إِبَّانِه، فلعلَّه يُعاقَب بحرمانه، فكم من مريد طلب شيخه أَنْ يُطلعه على سر الربوبية قبل بلوغ محله، فكان ذلك سببب عطبه، فيقال له: ولا تحلق رأسك من شهود السوى حتى يبلغ هَديُ نفسك محلة فيذبح، فإذا ذُبِحت النفس وأُجهِز عليها حلق رأسه حينئذٍ من شهود السِّوى، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه.
إنْ تُرِدْ وَصْلَنَا فَمَوْتُكَ شَرْطٌ ** لا يَنَالُ الْوِصَال مَنْ فِيهِ فَضْلَهْ

فمن كان مريضاً بضعف عزمه، أو به أذى بعدم نهوض حاله، بحيث لم تُسعفْه المقادير في مجاهدة نفسه، فليشتغل بالنسك الظاهر من صيام أو صدقة أو قراءة أو غير ذلك، حتى يَمنَّ عليه العليمُ الحكيمُ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولمّا ذكر الحقّ تعالى هدى الإحصار وفديَة الأذى، ذكر هدى التمتع، فقال: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب}
يقول الحقّ جلّ جلاله: فإذا حصل لكم الأمن من المرض أو العدو، أوردتم الحج {فمن تمتع} منكم {بالعمرة إلى الحج} بأن قدَّم العمرة في أشهر الحج، ثم حجّ من عامه، فالواجب عليه {ما استيسر من الهدي}؛ شاة فأعلى؛ لكونه تمتَّعَ بإسقاط أحد السَّفَرَيْن ولم يُفرِد لكل عبادة سفراً مخصوصاً. {فمن لم يجد} الهدي، ولم يقدِر على شرائه، فعليه {صيام ثلاثة أيام} في زمن {الحج}، وهو زمنُ إحرامه إلى وقوفه بعرفة، فإن لم يصم في ذلك الزمان صام أيام التشويق. ثم يصوم سبعة أيام إذا رجَع إلى مكة أو إلى بلده. فتلك {عشرة} أيام {كاملة}، ولا تتوهموا أن السبعة بدل من الثلاثة، فلذلك صرّح الحقّ تعالى بفَذْلَكة الحساب.
وهذا الهَدْي أو الصيام إنما يجب على المتمتع؛ إذا لم يكن ساكناً بأهله في مكة أو ذي طَوى، وأما مَن كان {أهلُه حاضري المسجد الحرام} فلا هَدى عليه؛ لأنه يُحرم بالحج من مكة فلم يسقط أحد السفرين، {واتقوا الله} في امتثال أوامره، وخصوصاً مناسك الحج؛ لكثرتها وتشعب فروعها، ولذلك أُفردت بالتأليف، {واعلموا أن الله شديد العقاب} لمن ترك أوامرَه وارتكب نواهيه، وبالله التوفيق.
الإشارة: يقول الحقّ جلّ جلاله على طريق الإشارة للمتوجهين إليه: فإذا أمنتُمْ من أعدائكم الذين يقطعونكم عن الوصول إلى حضرتنا، أو أمِنْتُم من الرجوع بعد الوصال، أو من السلب بعد العطاء، وذلك بعد التمكين من شهود أسرار الذات، وأنوار الصفات، إذ الكريم إذا أعطى لا يرجع، فإذا حصل لكم الأَمْن، فمن تمتع بأنوار الشريعة إلى أسرار الحقيقة فعليه ما استطاع من الهدي والسمت الحسَن والخلُق الحَسن؛ لأنه إذ ذاك قد اتصف بصفة الكمال وتصدَّر لتربية الرجال، فمن لم يجد ذلك فلرجع إلى ما تيسر من المجاهدة حتى يتمكن من ذلك الهَدْي الحسن والخلق الحسن، هذا لمن لم يتمكن في الحضرة الأزلية، وأما مَن كان مقيماً بها، عاكفاً في شهود أنوارها، فلا كلام عليه، لأنه قد تولاّه مولاه، وغيَّبَه عن شهود نفسه وهواه، فَأمْرُه كله بالله وإلى الله. جعلنا الله فيهم بمنِّه وكرمه، لكن لا يغفُل عن التقوى؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام: «أنا أعرفُكُم بالله، وأنا أتقاكم له» وقالوا: من علامة النهايات الرجوعُ إلى البدايات. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (197):

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)}
قلت: {الحج}: مبتدأ، على حذف مضاف، أي: إحرامُ الحج أو فعلُ الحج، و{أشهر}: خبر، وإذا وقع الزمان خبراً عن اسم معنى؛ فإن كان ذلك المعنى واقعاً في كل ذلك الزمان أو جُلِّه؛ تعيَّن رفعُه عند الكوفيين، وترجح عند البصريين إذا كان الزمان نكرة، نحو: السفر يوم. إن كان السفر واقعاً في جميع ذلك اليوم أو في جُلِّه؛ لأنه باستغراقه إياه صار كأنه هو، ويصح: السفر يوماً، أو في يوم. وإن كان ذلك المعنى واقعاً في بعض ذلك الزمان تعيَّن نصبُه أو جرَّه ف (في)، نحو: السفر يوم الجمعة، أو في يوم الجمعة وقد يرفع نادراً.
قال في التسهيل: ويُغني- أيْ: ظرف الزمان- عن خبر اسم معنى مطلقاً، فإن وقع في جميعه، أو في أكثره، وكان نكرة، رُفع غالباً، ولا يمتنع نصبه ولا جره بفي خلافاً للكوفيين. وربما رُفع خبرُ الزمان المُوقَع في بعضه. اهـ. ومن ذلك: {الحج أشهر معلومات} فإن جُلّضها تصلح للإحرام.
يقول الحقّ جلّ جلاله: وقتُ إحرام الحج {أشهر معلومات}: شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن أحرم قبلها كره عند مالك، وبطل عند الشافعي، {فمن فرض} على نفسه {فيهن الحج} فيلزم الأدب والوقار، ويجانبْ شهوة النساء، {فلا} يقع منه {رفث} أي: جماع أو كلام فُحْش، {ولا فسوق} أي: ذنوب، {ولا جدال في} زمان {الحج} ولو مع المكاري أو الخُدّام، ولا غيره من أنواع الخصام؛ فإنه في حضرة الملك العلام. {وما تفعلوا من خير} كحِلْم وصبر وحُسن خلق {يعلمه الله} فاستبقوا الخيرات، وتزودوا قبل هجوم الممات، واتقوا الله حق تقاته {فإن خير الزاد التقوى}. أو تزودوا لسفر الحج، ولا تسافروا كَلاً على الناس؛ {فإن خير الزاد التقوى} عن الطمع في الخلق، {واتقون يا أولي الألباب}، وأفرِدُوني في سركم حتى أفتح لكم الباب، وأدخلَكم مع الأحباب.
الإشارة: معاملة الأبدان مؤقتة بالأمكان والأزمان، ومعاملة القلوب أو الأرواح غير مؤقتة بزمان مخصوص، ولا مكان مخصوص، فحجَ القلوب، الأزمنةُ كلها له ميقات، والأماكن كلها عرفات، حج القلوب هو العلوب هو العكوف في حضرة علام الغيوب، وهي مُسَرْمَدَةٌ على الداوم على مَرِّ الليالي والأيام، فكل وقت عندهم ليلة القدر، وكل مكان عندهم عرفةُ المشرَّفةُ القدر، وأنشدوا:
لولا شهودُ جمالكم في ذاتي ** ما كنتُ أَرْضَى ساعةً بِحَياتي

ما ليلةُ القدرُ الْمُعَظَّمُ شأنُها ** إلا إذا عَمَرَتْ بكُم أوقَاتِي

إن المحبَّ إذا تمكَّنَ في الهَوَى ** والحبّ لم يَحْتَجْ إلى ميقاتِ

وقال آخر:
كُلُّ وقتٍ مِنْ حَبيبِي ** قدْرُهُ كأَلْفِ حَجَّة

فازَ مَنْ خلَّى الشَّوَاغِلْ ** وَلِموْلاَه تَوَجَّهْ

فمَنْ فَرض على قلبه حجَّ الحضرة فيلتزم الأدب والنظرة، والسكوتَ والفكرة، قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه: 108] فلا رفث ولا فسوقَ ولا جدال ولا مراء، إذ مبنى طريقهم على التسليم والرضى، وما تفعلوا من خير فليس على الله بخفي. وتزودوا بتقوى شهود السَّوَى، {فإن خير الزاد التقوى}، وجِمَاعُ التقوى هي مخالفة الهَوى، ومحبة المولَى، فهذه تقوى أولي الألباب؛ الذين صفَتْ مِرآة قلوبهم، فأبصروا الرشد والصواب، وبالله التوفيق.